فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وإن جنحوا للسّلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنه هو السميع العليم}.
جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير.
قال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ** بذكراك والعيس المراسيل جنح

وجنحَ الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض.
وقال النابغة يصف طيورًا تتبع الجيش:
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى الجيشان أوّل غالب

ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله، وقال النضر بن شميل: جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في {جنحوا} عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير، وقيل على مشركي قريش والعرب، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى الله عليه وسلم قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث.
فقيل: التأنيث لغة، وقيل على معنى المسالمة، وقيل حملًا على النقيض وهو الحرب، وقال الشاعر:
وأفنيت في الحرب آلاتها ** وعددت للسلم أوزارها

وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون}، وقيل: أداء الجزية، وقال الحسن: السلم الإسلام، وعن ابن عباس نسخت بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون}، وعن مجاهد بقوله: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، قال الزمخشري: والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدًا أو يجابوا إلى الهدنة أبدًا، وقرأ الأشهب العقيلي {فاجنح} بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم، وقال ابن جني: القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كاف من توكّل عليه {وهو السميع} لأقوالهم: {العليم} بنياتهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِن جَنَحُواْ}
الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى، أي إن مالوا {لِلسَّلْمِ} أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعتادِ العتاد {فاجنح لَهَا} أي للسلم، والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال:
السِّلمُ تأخذ منها ما رضيتَ به ** والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جُرَعُ

وقرئ فاجنُحْ بضم النون {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد {أَنَّهُ} تعالى: {هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع {العليم} فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل: عامة نسختها آيةُ السيف. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن جَنَحُواْ}
الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا {لِلسَّلْمِ} أي الاستسلام والصلح.
وقرأ ابن عباس وأبو بكر بكسر السين وهو لغة {فاجنح لَهَا} أي للسم، والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي.
وقال أبو البقاء: إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا:
السلم تأخذ منها ما رضيت به ** والحرب تكفيك من أنفاسها جرع

وقرأ الأشهب العقيلي {فاجنح} بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فإنها كما قال مجاهد.
والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناءً على أنهم المعنيون بقوله تعالى: {الذين عاهدت} [الأنفال: 56] الخ، والضمير في {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} [الأنفال: 60] لهم، وقيل: هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فإنه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدًا أو يجابوا إلى الهدنة أبدًا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فتذكر، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد {أَنَّهُ} جل شأنه {هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع {العليم} فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}
قال من بيان أحوال معاملة العدوّ في الحرب: من وفائهم بالعهد، وخيانتهم، وكيف يحلّ المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين، والأمر بالاستعداد لهم؛ إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة، وكفّوا عن حالة الحرب.
فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم.
والجنوح: المَيْل، وهو مشتقّ من جناح الطائِر: لأنّ الطائِر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش:
قد أيقنَّ أنّ قبيلَه ** إذا ما التقى الجمعان أوَّلُ غالب

فمعنى {وإن جنحوا للسلم} إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه، كما يميل الطائِر الجانح.
وإنّما لم يقل: وإن طلبوا السلم فأجبهم إليهم، للتنبيه على أنّه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب، لأنّهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدًا، فهذا مقابل قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} [الأنفال: 58] فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم.
واللام في قوله: {للسلم} واقعة موقع (إلى) لتقوية التنبيه على أنّ ميلهم إلى السلم ميل حق، أي: وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره، لأنّ حقّ {جَنح} أن يعدّى بـ(إلى) لأنّه بمعنى مال الذي يعدّى بإلى فلا تكون تعديته باللام إلاّ لغرض، وفي الكشاف: أنّه يقال جنح له وإليه.
والسلم بفتح السين وكسرها ضدّ الحرب.
وقرأه الجمهور بالفتح، وقرأه حمزة، وأبو بكر عن عاصم، وخلَف بكسر السين وحقّ لفظه التذكير، ولكنّه يؤنّث حملًا على ضدّه الحرب وقد ورد مؤنّثًا في كلامهم كثيرًا.
والأمر بالتوكّل على الله، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم، ليكون النبي صلى الله عليه وسلم معتمدًا في جميع شأنه على الله تعالى، ومفوّضًا إليه تسيير أموره، لتكون مدّة السلم مدّة تقوّ واستعداد، وليكفيه الله شرّ عدوّه إذا نقضوا العهد، ولذلك عُقب الأمر بالتوكّل بتذكيره بأنّ الله السميع العليم، أي السميع لكلامهم في العهد، العليمُ بضمائرهم، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم.
وقوله: {فاجنح لها} جيء بفعل {اجنح} لمشاكلة قوله: {جنحوا}.
وطريق القصر في قوله: {هو السميع العليم} أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم، أي: فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم.
وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله تعالى عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكّل عليه لا على غيره.
وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدوّ: دليل بَيِّن على أنّ التوكّل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء، فتعاطي الأسباب فيما هي من مقدور الناس، والتوكّل فيما يخرج عن ذلك.
واعلم أنّ ضمير جمع الغائبين في قوله: {وإن جنحوا للسلم} وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلَها، منهم مشركون في قوله تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} [الأنفال: 48]، ومنهم من قيل: إنّهم من أهل الكتاب، ومنهم من تردّدت فيهم أقوال المفسّرين: قيل: هم من أهل الكتاب، وقيل: هم من المشركين، وذلك قوله: {إن شر الدوآب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم} [الأنفال: 55، 56] الآية.
قيل: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، وقيل: هم من المشركين، فاحتمل أن يكون ضمير {جنحوا} عائدًا إلى المشركين.
أو عائدًا إلى أهل الكتاب، أو عائدًا إلى الفريقين كليهما.
فقيل: عاد ضمير الغيبة في قوله: {وإن جنحوا للسلم} إلى المشركين، قاله قتادة، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، ورواه عطاء عن ابن عبّاس، وقيل: عاد إلى أهل الكتاب، قاله مجاهد.
فالذين قالوا: إنّ الضمير عائِد إلى المشركين، قالوا: كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين، ثم نسخ بآية سورة براءة (5) {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية.
ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة.
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار: من مشركين وأهل الكتاب، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} [الأنفال: 55] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير {جنحوا} أو مبيّنة إجمالَه، وليست من النسخ في شيء.
قال أبو بكر بن العربي: أما من قال إنها منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] فدعوى، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه.
وهؤلاء قد انقضى أمرهم.
وأمّا المشركون من غيرهم، والمجوس، وأهل الكتاب، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى: فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين.
قال ابن العربي: فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة:
فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا ** وتضربَ بالبيض الرقاقِ الجماجمُ

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه.
قد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر، ووادع الضمري، وصالح أكيد رَدُومة، وأهلَ نجران، وهادن قريشًا لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده.
أمّا ما همّ به النبي صلى الله عليه وسلم من مصالحة عُيَينة بن حصن، ومن معه، على أن يعطيهم نصف ثِمار المدينة فذلك قدْ عدَل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال سعد بن عبادة، وسعد بن مُعاذ، في جماعةِ الأنصار: لا نعطيهم إلاّ السيف.
فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم، ثم نسخ ذلك، بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا، في آيات السيف.
قال قتادة وعِكرمة: نَسختْ براءة كلّ مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)} أي أن الله لم يطالبنا بأن نكون أقوياء لنفتري على غيرنا، فهو لا يريد منا إعداد القوة للاعتداء والعدوان، وإنما يريد القوة لمنع الحرب ليسود السلام ويعم الكون؛ لذلك ينهانا سبحانه وتعالى أن يكون استعدادنا للقتال وسيلة للاعتداء على الناس والافتراء عليهم. ولهذا فإن طلب الخصم السلم والسلام صار لزامًا علينا أن نسالمهم. وإياك أن تقول: إن هذه خديعة وإنهم يريدون أن يخدعونا؛ لأنك لا تحقق شيئًا بقوتك، ولكن بالتوكل على الله عز وجل والتأكد أنه معك، والله عز وجل يريد الكون متساندًا لا متعاندًا. وهو سبحانه وتعالى يطلب منك القوة لترهب الخصوم. لا لتظلمهم بها فتقاتلهم دون سبب. وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61].